المقدمة: سوريا على مفترق طرق
تحولاتٌ سياسية جذرية، وملايين السوريين موزعين بين الداخل والخارج. سوريا اليوم لم تعد تلك البلاد التي عرفناها من قبل؛ لقد تحولت إلى ساحة تتقاطع فيها المصالح الإقليمية والدولية، وتتصارع فيها أحلام الشعب السوري بين الأمل واليأس. في 27 شباط/فبراير، اجتمع في إسطنبول مفكرون وأكاديميون ونشطاء في ندوة بعنوان
“الواقع السوري والمستقبل ودور سوريي المهجر”، سعياً لإيجاد إجابات تتجاوز اللحظة الراهنة إلى استشراف مستقبل أكثر إشراقاً. كيف يمكن لسوريا أن تتجاوز إرث الدمار والخراب؟ وما الدور الذي يمكن أن يلعبه السوريون في المهجر في إعادة تشكيل وطنهم؟
المتحدث الرئيسي في الندوة، الباحث والمترجم
عبيدة غضبان، رسم صورة بانورامية للوضع السوري الراهن، محللًا الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحدد المسار المستقبلي للبلاد، ومسلطًا الضوء على الخيارات المتاحة في هذه المرحلة المصيرية.
تحديات المرحلة الانتقالية: بين الممكن والمستحيل
عند الحديث عن مرحلة انتقالية في سوريا، تبرز أسئلة جوهرية: كيف ننتقل من نظام استبدادي إلى ديمقراطية فاعلة؟ كيف يمكن تحقيق العدالة الانتقالية دون الوقوع في فخ الانتقام؟ وفقاً للنقاشات التي دارت في الندوة، فإن المرحلة الانتقالية في سوريا تواجه أربع تحديات رئيسية:
- التحدي الأمني: نزع السلاح من الفصائل المسلحة وإعادة دمجها في مؤسسات الدولة.
- التحدي السياسي: بناء مؤسسات حكم ذات شرعية وطنية وقادرة على إدارة الدولة.
- التحدي الاقتصادي: إعادة الإعمار في ظل انهيار البنية التحتية وتراجع العملة الوطنية.
- التحدي الاجتماعي: تحقيق المصالحة الوطنية في مجتمع مزقته الانقسامات العميقة.
قدم الباحث
عبيدة غضبان قراءة تستند إلى فهم وبحث عميق لكل هذه التحديات، مشيرًا إلى أن الوضع الراهن لا يمكن تفسيره فقط من خلال الصراع الداخلي، بل من خلال شبكة معقدة من المصالح الدولية التي جعلت سوريا ساحة صراع بالوكالة.
عبيدة غضبان أشار إلى أن تحقيق العدالة الانتقالية ليس مهمة سهلة، لكنها تتطلب أن يكون السوريون أنفسهم جزءاً من الحل، وليسوا مجرد متلقين لقرارات دولية. سوريا اليوم ليست أزمة معزولة، بل هي حالة معقدة تتأثر باللاعبين الإقليميين والدوليين، مما يجعل أي حل مستدام يتطلب تفهماً عميقاً لهذه التداخلات.
“ما نعيشه اليوم ليس أزمة لحظة، بل امتداد لتعقيدات عقود طويلة… نحن أمام تحدٍ وجودي يتطلب التفكير خارج الأطر التقليدية” – بهذه الكلمات لخص غضبان جوهر الأزمة السورية.
سوريا بين رفض الاستسلام ورهانات الحرب
في ظل تصاعد التوترات الإقليمية واستمرار العدوان الإسرائيلي، يبرز سؤال محوري: كيف يمكن لسوريا أن توازن بين رفضها للاستسلام ورهانات الحرب التي تُفرض عليها؟
هذا السؤال يزداد تعقيداً مع التحولات السياسية والعسكرية في المنطقة، خاصة مع بروز قيادات جديدة تحاول إعادة ترتيب البيت السوري.
العدوان الإسرائيلي، كما أشار غضبان، ليس مجرد تصعيد عابر، بل هو استراتيجية ممنهجة تهدف إلى إبقاء سوريا في حالة من عدم الاستقرار. الضربات الإسرائيلية الأخيرة على ريف دمشق ودرعا والقنيطرة لم تكن عشوائية، بل كانت تستهدف إضعاف القدرات الدفاعية السورية وفرض واقع جديد على الأرض.
سوريا الجديدة، تحاول النهوض وسط ركام الحرب، بين إعادة بناء الدولة ومواجهة الضغوط الخارجية. ورغم الجهود المبذولة لتعزيز الوحدة الوطنية وإعادة تأهيل المؤسسات، إلا أن العقبات لا تزال كثيرة، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي وغياب دعم دولي حقيقي لإعادة الإعمار.
السيناريوهات المستقبلية: بين الحرب والسلام
في ظل هذه المعادلات المعقدة، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل سوريا:
- سيناريو التصعيد: استمرار الغارات الإسرائيلية قد يدفع سوريا وحلفاءها إلى ردود فعل أكثر حدة، مما ينذر بمواجهات إقليمية أوسع.
- سيناريو التهدئة: نجاح الوساطات الدولية في فرض تهدئة قد يفتح الباب لإعادة الإعمار وتركيز الجهود على الداخل السوري.
- سيناريو تدويل الصراع: تحول سوريا إلى ساحة صراع بين القوى الكبرى، مما قد يغير موازين القوى في المنطقة.
العلاقات السورية-التركية: من العداء إلى الشراكة؟
تشهد العلاقات السورية-التركية تحولاً جذرياً في أعقاب سقوط نظام الأسد. تركيا، التي كانت داعماً رئيسياً للمعارضة السورية، تجد نفسها اليوم أمام واقع جديد يتطلب إعادة رسم استراتيجيتها. أنقرة ترى في سوريا سوقاً ناشئة يمكن أن تسهم في تنشيط اقتصادها عبر مشاريع إعادة الإعمار والاستثمارات المشتركة.
لكن هذا التقارب لا يخلو من تعقيدات. ملفات حساسة مثل مستقبل المنطقة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، والتوازنات الإقليمية مع روسيا وإيران، تظل عالقة. ومع ذلك، فإن البراغماتية السياسية والاقتصادية تدفع الطرفين نحو بناء تفاهمات جديدة قد تؤسس لشراكة طويلة الأمد.
ما زالت تركيا العامل الأكثر تأثيرًا في مستقبل سوريا، ولكن هل ستستمر في موقعها كحليف للحكومة الجديدة أم أنها ستعيد تموضعها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية؟ – تساؤل حمل في طياته أبعادًا جيوسياسية عميقة.
هذا التحول لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتاج حسابات دقيقة تتعلق بالأمن والاستقرار والاقتصاد. فتركيا، التي تستضيف ملايين اللاجئين السوريين، تدرك أن استقرار سوريا هو مفتاح لتخفيف الضغوط الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها.
النظام المالي السوري: إعادة بناء من الصفر
يواجه النظام المالي السوري تحديات ضخمة بعد أكثر من عقد من الحرب، حيث أدت العقوبات الدولية، وانهيار البنية التحتية، وتآكل الثقة في المؤسسات المالية إلى خلق فراغ اقتصادي يستوجب حلولًا جذرية. إعادة بناء النظام المالي ليست مجرد عملية تقنية، بل تتطلب إصلاحات هيكلية تعيد صياغة العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص، وتعزز مناخ الاستثمار، وتؤسس لبنية تحتية مالية حديثة تواكب التطورات العالمية.
في هذا السياق، تطرح تركيا نفسها كنموذج يمكن لسوريا الاستفادة منه. فقد شهد النظام المالي التركي تحولًا رقميًا كبيرًا خلال العقد الأخير، حيث أصبحت الخدمات المصرفية الرقمية والمدفوعات الإلكترونية جزءًا أساسيًا من الاقتصاد التركي. هذه التجربة يمكن أن توفر خارطة طريق لسوريا، ليس فقط في مجال تحديث القطاع المصرفي، بل أيضًا في إنشاء بيئة اقتصادية أكثر شفافية واستقرارًا.
إن الانفتاح التركي على سوريا يحمل فرصًا كبيرة قد تسهم في تسريع عملية التعافي الاقتصادي، خاصة إذا ما أُحسن توظيف هذا التعاون ضمن رؤية اقتصادية شاملة ومستدامة.
التحديات الاقتصادية وآفاق الاستثمار وإعادة الإعمار
شهدت سوريا تراجعًا طفيفًا في سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، ما يعكس استمرار الأزمة الاقتصادية. في المقابل، هناك بعض العوامل الخارجية التي قد تؤثر إيجابًا، مثل تعليق الاتحاد الأوروبي بعض العقوبات، وإجراءات أمريكية مؤقتة تسهّل التعاملات المالية، لكن العوامل الداخلية، كطباعة العملة وضخ أموال جديدة، تبقى تحديًا رئيسيًا.
مع دمار واسع طال البنية التحتية، فإن إعادة الإعمار تتطلب خيارات تمويل مرنة، مثل:
- عقود الإدارة.
- نظام BOT .
- الخصخصة الجزئية.
- التمويل الدولي.
وتشير التقديرات إلى أن كلفة الأضرار المباشرة لقطاع الكهرباء وحده بلغت 40 مليار دولار، مما يجعل الحاجة إلى حلول مستدامة ضرورة حتمية.
دور السوريين في المهجر: من الشتات إلى إعادة البناء
السوريون في المهجر ليسوا مجرد ضحايا للجوء، بل أصبحوا فاعلين اقتصاديين وثقافيين وسياسيين في العديد من الدول. لكن السؤال الأهم: كيف يمكن استثمار هذه القوة في إعادة بناء سوريا؟
تشير التجارب الدولية إلى أن الجاليات المهاجرة لعبت دورًا حاسمًا في نهضة دولها الأصلية بعد الأزمات، كما في حالة الجاليات الصينية واللبنانية والهندية.
أحد التحديات الرئيسية التي تواجههم هو غياب الأطر التنظيمية التي تتيح لهم التأثير على مسار الأحداث في الداخل السوري. إضافة إلى ذلك، هناك مخاوف مشروعة تتعلق بالاستثمار والعودة في ظل غياب الضمانات السياسية والأمنية.
“السوري في المهجر لم يعد مجرد فرد يبحث عن فرصة عمل، بل أصبح جزءًا من شبكة اقتصادية عالمية يمكن أن تساهم في إعادة بناء بلاده إذا توفرت الظروف المناسبة” – أحد أبرز المداخلات التي أثرت النقاش في الندوة.
منبر منظمات المجتمع المدني يواصل حواراته حول مستقبل سوريا والجالية السورية
ندوة “سوريا الجديدة: الأمن، الدبلوماسية والمقاربات الاستراتيجية“:
في إطار الجهود المستمرة لفهم التحولات الجيوسياسية التي ترسم ملامح سوريا الجديدة، نظّم منبر منظمات المجتمع المدني (ULFED) ندوة فكرية بعنوان “
سوريا الجديدة: الأمن، الدبلوماسية والمقاربات الاستراتيجية“، وذلك في 13شباط 2025 بمدينة إسطنبول. جاءت هذه الندوة ضمن سلسلة من الحوارات التي يعقدها المنبر لمناقشة التحديات والفرص التي تواجه سوريا في مرحلة ما بعد التحرير، بمشاركة نخبة من الباحثين وصنّاع القرار والخبراء الاستراتيجيين.
ركّزت هذه الندوة على تحليل الأبعاد الأمنية والدبلوماسية والاستراتيجية التي تشكّل مستقبل سوريا في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، مع تسليط الضوء على الدور التركي في صياغة معادلة الاستقرار، وإمكانيات التعاون بين أنقرة ودمشق في إعادة الإعمار وبناء مؤسسات الدولة.
شارك في الندوة نخبة من الباحثين والخبراء، من بينهم
زاهدة توبا كور، الباحثة المختصة في الشؤون الإقليمية، و
عمر أوزكيزيلجيك، مدير الدراسات التركية في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، و
محمد ألغان، النائب السابق في البرلمان التركي، و
محمد أكتع، المدير العام لمنبر منظمات المجتمع المدني.
استعرضت
زاهدة توبا كور الديناميكيات المتغيرة في الشرق الأوسط، وتأثير التوازنات الإقليمية على الملف السوري، مؤكدةً أن تحقيق استقرار حقيقي في سوريا لا يمكن أن يتم دون توافق دولي وإقليمي يأخذ في الاعتبار المصالح الاستراتيجية لأنقرة ودمشق على حد سواء.
وناقش
عمر أوزكيزيلجيك التحديات الأمنية التي تواجه سوريا بعد الحرب، مشددًا على أهمية إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والعسكرية لضمان الاستقرار. وتطرق إلى إشكالية الجماعات المسلحة، متسائلًا عن إمكانية دمجها ضمن بنية دفاعية وطنية أو تفكيكها ضمن عملية سياسية شاملة.
وأوضح
محمد ألغان، النائب السابق في البرلمان التركي، توجهات السياسة التركية تجاه سوريا، مؤكدًا أن أنقرة تنظر إلى الملف السوري من زاوية الأمن القومي والاستقرار الإقليمي، وأنها مستعدة لدعم جهود إعادة الإعمار ضمن رؤية تحمي مصالحها وتحقق الاستقرار في جوارها الجنوبي.
وأكد
محمد أكتع، المدير العام لـ ULFED، أن منظمات المجتمع المدني تلعب دورًا أساسيًا في جهود إعادة الإعمار، خصوصًا في المناطق التي شهدت استقرارًا نسبيًا مثل مناطق درع الفرات. كما شدد على أهمية بناء شراكات مستدامة بين المجتمع المدني السوري والمؤسسات التركية والدولية لتحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية.
الجاليات السورية: الأدوار المرحلية والاستراتيجية
بالإضافة إلى مناقشة الشأن السوري الداخلي، كان للجالية السورية في تركيا حضور بارز ضمن فعاليات
“اللقاء الخامس“ من برنامج
“صالون المجتمع المدني“، الذي انعقد بتاريخ
8 شباط 2025، وركّز على بحث سبل تمكين السوريين في تركيا، وتعزيز دورهم في خدمة مجتمعهم، وإيجاد هيكل تنظيمي يمثل مصالحهم.
ناقش المشاركون في اللقاء
أهمية إنشاء كيان منظم للجالية السورية على غرار التجارب العالمية الناجحة، مثل الجالية اللبنانية في إفريقيا أو الأرمنية في أوروبا، حيث لعبت هذه الجاليات أدوارًا اقتصادية وسياسية فعالة في بلدان المهجر.
أبرز التحديات التي تواجه تأسيس الجالية السورية في تركيا
غياب الاعتراف القانوني: لا تحظى الجالية السورية بكيان رسمي معترف به، مما يعيق تنظيمها بشكل فعال.
التشتت والانقسامات: تعدد المبادرات وعدم وجود إطار موحد يزيد من صعوبة تحقيق عمل جماعي منسجم.
التحديات الاقتصادية والاجتماعية: انشغال السوريين بتأمين متطلبات الحياة اليومية يجعل انخراطهم في العمل المجتمعي محدودًا.
ضعف التنسيق بين القطاعات المختلفة: رغم وجود تجمعات مهنية مثل الأطباء والمهندسين والمعلمين، إلا أن التواصل فيما بينهم لا يزال ضعيفًا.
التحديات القانونية والإدارية: هناك قيود على تأسيس كيانات تمثل الجالية بشكل مستقل عن المنظمات غير الحكومية التقليدية.
تعكس هذه الفعاليات التي نظمها
منبر منظمات المجتمع المدني (ULFED) الدور المتنامي للمجتمع المدني في رسم معالم مستقبل سوريا، وتعزيز دور السوريين في المهجر، وتأسيس بيئة مستدامة للتعاون بين السوريين والأتراك. وبينما لا تزال التحديات قائمة، فإن توحيد الجهود وإطلاق مبادرات مؤسسية مستدامة قد يكون المفتاح لبناء مستقبل أكثر استقرارًا وتأثيرًا للسوريين في تركيا، ومساهمة فاعلة في إعادة إعمار سوريا.
الخاتمة: سوريا بين الممكن والمأمول
سوريا اليوم تقف عند مفترق طرق تاريخي، وتواجه تحديات وجودية تتطلب رؤية وطنية تتجاوز الحسابات الفصائلية، وإرادة سياسية قادرة على المضي قدمًا رغم التحديات.
السؤال الذي يجب أن يطرحه كل سوري على نفسه اليوم ليس فقط: كيف نبني وطنًا يتسع للجميع؟ وكيف نعيد للسوريين ثقتهم بأن المستقبل يمكن أن يكون أفضل؟
ربما يكون الجواب في الإرادة الجماعية التي توحد السوريين، وربما يكون في إدراك أن التغيير الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل يُصنع في الداخل، بجهود أبناء سوريا وإصرارهم على إعادة بناء ما تهدم، لا بالحجارة فقط، بل بالأمل والعمل والإيمان بسوريا جديدة.