مقدمة:
تشهد تركيا تحولات كبيرة في سياسات تنظيم الإقامة للأجانب، مما يثير تساؤلات حول تأثير هذه السياسات على المجتمع، وخاصة على اللاجئين السوريين. إحدى هذه السياسات المثيرة للجدل هي سياسة “الأحياء المغلقة”، التي تهدف إلى الحد من وجود الأجانب في مناطق معينة من البلاد. من خلال تحليل دقيق لهذه السياسة، يتبين أنها تفرض تحديات كبيرة على المجتمع السوري في تركيا، لكنها في الوقت ذاته تقدم فرصًا لتعزيز الاندماج والتكيف الاجتماعي.
تاريخ السياسة وتطوراتها:
بدأت تركيا بتطبيق سياسة “الأحياء المغلقة” في إسطنبول عام 2019، حيث أُغلقت المدينة أمام تسجيل السوريين تحت الحماية المؤقتة. واستمرت هذه السياسة في التوسع، ليشمل الإغلاق مناطق أخرى مثل إسنيورت والفاتح في عام 2021، وصولاً إلى إغلاق 1169 حيًا في 63 محافظة بحلول منتصف 2022.
الأحياء المغلقة: الواقع والتطبيق:
تمت صياغة سياسة “الأحياء المغلقة” في محاولة لإدارة تزايد أعداد الأجانب في مناطق معينة، وكجزء من جهود تنظيم وجودهم في تلك المناطق. تعتمد هذه السياسة على إغلاق الأحياء التي تزيد فيها نسبة الأجانب عن 20% أمام تسجيل الإقامة الجديدة، باستثناء حالات استثنائية مثل المواليد الجدد ولم شمل الأسر. يهدف هذا الإجراء إلى منع تكوين تجمعات سكانية كبيرة من الأجانب في منطقة واحدة، مما قد يؤدي إلى مناطق معزولة تعزز العزلة الاجتماعية.
تقييم الوضع الراهن: آراء وحلول:
تسببت هذه السياسة في تحديات كبيرة للسوريين الذين يعيشون في الأحياء المغلقة. في 29 آب\أغسطس 2024، نظم منبر منظمات المجتمع المدني ورشة عمل شملت جلستين في مكتبه بإسطنبول، جمعت مختلف الأطراف المعنية لمناقشة هذه القضية وطرح حلول ممكنة. كانت الجلسة الأولى مخصصة لتقييم الوضع الراهن لتطبيق هذه السياسات، حيث تم الاستماع إلى شهادات السوريين المتأثرين وتناول التحديات اليومية التي يواجهونها. أما الجلسة الثانية، فقد حضرها ممثلون عن مؤسسات تركية وشخصيات من إدارة الهجرة، حيث تم تبادل الآراء حول تحسين السياسات بما يخدم مصالح الجميع.
الجوانب الإيجابية:
من أبرز الأهداف الإيجابية لهذه السياسة منع تكوين تجمعات “الأحياء المغلقة” التي يقطنها الأجانب فقط. من خلال توزيع الأجانب على مناطق مختلفة، يمكن تحقيق توازن اجتماعي وثقافي بين السكان المحليين والمهاجرين، مما يعزز فرص الانسجام الاجتماعي ويقلل من احتمالات العزلة والتمييز.
الجوانب السلبية:
رغم هذه الأهداف، فإن التطبيق العملي لهذه السياسة يواجه تحديات كبيرة. السوريون الذين لا يستطيعون العثور على مساكن بأسعار معقولة في الأحياء المفتوحة للإقامة يجدون أنفسهم مضطرين للعيش في الأحياء المغلقة بدون تسجيل، مما يضعهم في مواجهة مع قيود قانونية واجتماعية ويحرمهم من الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة.
تأثير السياسات على الاندماج المجتمعي:
تشير الأبحاث إلى أن هذه السياسات قد تؤدي إلى تفاقم مشاكل الاندماج المجتمعي بدلاً من حلها، حيث يجد المهاجرون صعوبة أكبر في التكيف مع المجتمع المحلي في ظل القيود الصارمة وعدم الاعتراف الكافي بالاستثناءات القانونية مثل لم شمل الأسر أو الحالات الصحية.
تقرير شامل يعكس التحديات والآثار السلبية على السوريين:
كجزء من متابعة منبر منظمات المجتمع المدني لقضية “الأحياء المغلقة” كإحدى قضايا المناصرة الرئيسية، يعمل المنبر على إعداد تقرير شامل يتضمن المشكلات التي يواجهها السوريون نتيجة لهذه السياسات. يشمل هذا التقرير تأثير السياسات سلبًا على عمليات الانسجام المجتمعي، وغياب التعامل الجدي مع استثناءات قانونية مثل لم شمل الأسرة والحالات الصحية والدراسة والعمل والاستثمار.
تم طرح قضايا متعلقة بتفريق الأسر وصعوبات تواجه الطلاب في نقل بطاقات الحماية المؤقتة “الكملك”، بالإضافة إلى المشاكل التي برزت بعد سنوات من وجود السوريين في تركيا، حيث لم يبدأ تطبيق القرار إلا بعد عام 2021. ولم تقتصر المعاناة على هذه الفئات فقط، بل تأثر المتضررون من الزلزال أيضًا، إلى جانب صعوبات في نقل العنوان واستغلال أصحاب المنازل لهذا الوضع. يعمل المنبر على توثيق هذه القضايا بتفاصيلها بهدف تقديمها للجهات المعنية، سعيًا لتخفيف هذه المعاناة وتحقيق حلول أكثر عدالة.
نحو حلول مشتركة:
إيجاد حلول فعالة لهذه التحديات يتطلب تعاونًا مشتركًا بين الحكومة التركية والمجتمع المدني والمجتمع السوري. من الضروري إعادة النظر في بعض جوانب هذه السياسة لضمان تحقيق التوازن بين مصالح الدولة في إدارة الهجرة وضمان حقوق اللاجئين في حياة كريمة.
خاتمة:
تبقى سياسة الأحياء المغلقة موضوعًا حساسًا يتطلب نهجًا متوازنًا يراعي التحديات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها جميع الأطراف. ومن خلال العمل المشترك، يمكن إيجاد حلول تحقق التوازن المطلوب وتضمن مستقبلًا أفضل للسوريين في تركيا.
في ضوء ما سبق، يتضح أن هذه السياسات تحتاج إلى مراجعة شاملة تأخذ بعين الاعتبار الآثار السلبية على المجتمعات الأجنبية والمحلية على حد سواء. يجب أن تكون هناك مقاربات أكثر شمولية وتوازنًا تسمح بتحقيق أهداف الدولة في إدارة الكثافة السكانية مع ضمان حقوق المهاجرين في الإقامة والعيش الكريم.